ثقافة مدخل إلى "ثورة دون كيشوت": في السّؤال عن لماذا العودة إلى "بروميثيوس"
نشر في 08 أوت 2017 (14:04)
بقلم : حاتم التليلي
أصبح رائجا اليوم أنّه لكلّ عمل مسرحيّ عناصر مجاورة له ومحيطة بعرضة، نحن نصطلح عليها في عالم الأدب بالعتبات، وهي عادة ما تكون في شكل عناوين أو نصوص قصيرة وربما حتّى رسوم، ومن شأنها ربط الجسور بين متن العمل الفني والمتقبّل أو هي تؤهله لمساءلة موضوعات ذلك العمل بشكل يجعل منها "نظاما إشاريا ومعـرفيا لا يقل أهمية عن المتن الذي يحيط به، بل إنّه يلعب دورا هاما في نوعية القراءة وتوجيهها" بعبارة الباحث "بلال عبد الرزاق" من كتابه "مدخل إلى عتبات النص".
في عالم المسرح، نحن نادرا ما نركّز على ذلك، إذ كثيرا ما ندخل إلى قاعة العرض مكتفين بعنوان العمل المسرحيّ وصاحبه المخرج، دون أدنى تركيز على الصورة الاشهارية أو معلّقة العمل بصفتها تتضمن نوعا من الايحاء الرمزي إلى الموضوعات المشتغل عليها، ودون أدنى تركيز أيضا على تلك الدعوة التي تصلنا كمتفرّجين أو مسرحيين مدعوين للمشاهدة بصفتها أيضا تتضمّن ملخّصا لخرافة العمل المسرحيّ أو حكايته.
هذا الأمر، من شأنه أن يخلق نوعا من المسافة فيما بعد بين المتقبّل واشتغال العرض المسرحيّ، خاصّة إذا طغت عليه الرمزية أو كانت بعض مشاهده ملتبسة بعض الشيء، أو لنقل إنّه سيجعل من قراءة العرض قائمة على تأويل مفرط في الخطأ، إذ هو تأويل نشأ من عدم ومحض، ولم يحدّد له منطلقات أوّليّة كتلك العتبات والمداخل التي من شأنها أن تجعل من كلّ قراءة قائمة على الهرمنيوطيقا تحاول قدر الامكان استنطاق العرض الفني بتخصيب منحاه الجماليّ نحو منظورات متعدّدة ومختلفة دون وأد منطلقاته الفكريّة وأبعاده القيمية التي قام عليها.
يمكننا النظر إلى مسرحية "ثورة دون كيشوت"، للمخرج التونسيّ وليد الدغسني، من هذه الزاوية، وذلك باستنطاق عتباتها الثلاث.
1-العنوان: الثورة/دون كيشوت.
2-النص الموازي: كائنات فضائيّة تحطّ برحالها على مدينة وتسيطر عليها.
3-معلّقة العرض.
للوهلة الأولى، وأنت تصاحب عنوان العرض الموسوم بـ"ثورة دون كيشوت"، سيحدث أن تعتقد أنّه مجرّد تصريف لغويّ علينا أن ننظر إليه بلامبالاة، إذ كثيرا ما عوّدنا المسرح في هذه السنوات العجاف بنشأة ظاهرة جدّ غريبة، ألا وهي ظاهرة الاستعراض الكلامي المصاحبة لعناوين المسرحيات، ولكن علينا أن ننتبه الآن:
أيّ علاقة من الممكن أن تربط الثورة بشخصيّة تاريخية عرفت بعدميتها وحربها الفارغة ضدّ طواحين الهواء؟ وهل نحن الآن إزاء مسرحة خطابها القديم ذلك أم إنّ مخرج العرض وجد في عبثيتها ما يجعلها تأخذ منحى رمزيّا يمكن تشغيله الآن؟ وهل ثمّة حالة مشابهة بين ثورة محارب العدم "دون كيشوت" وثورة النّوع البشريّ التونسيّ منذ سنوات قليلة نحن ندفع ضريبتها الآن بالرغم من أّنّها حظيت أمام العالم بإعجاب كبير نظرا لأنّها الاستثناء الوحيد من ثورات شعوب عربية أخرى؟
إن أسئلة من هذا القبيل هي التي ستعدّ فيما بعد مفتاح الولوج من بوابة العرض إلى متونه، وإذا ما أضفنا إليها النص الموازي الذي يتحدّث عن كائنات فضائية غريبة سيطرت على مدينة ما، فمن حقنا الآن، ونحن نضع في اعتبارنا أنّنا تأويليون، التساؤل عن خاصّيتها وماهية تلك المدينة ومن يسكنها: هل هي مدينة هذا السيّد "دون كيشوت" أم مدينتنا؟ وإذا ما اعتبرنا أنفسنا نحن الـ"دون كيشوتيون"، فلماذا تحطّ تلك الكائنات رحالها هنا؟ هل بغاية تدمير تلك "الثورة" أم ايعازها والذهاب بأهدافها إلى أقصاه؟ ما السرّ في كوننا نتلبّس بـ"دون كيشوت"؟ هل بسبب تدخّل تلك الكائنات والتحكّم في شؤوننا الثوريّة؟ وما ماهيّة هذه الكائنات أصلا؟ وما معنى أن نشاهد معلّقة العرض فنرى صور الممثلين شاهقين في الأفق البعيد بشكل فيه غير قليل من الحيرة والخوف والتساؤل؟ ألا يكرّس ذلك ماهيتهم العدميّة؟ هل منظور المخرج هنا يحيلنا بشكل أو بآخر إلى تلك القوى الخفيّة (السياسية والاقتصادية والأمنية) التي حكمت على ثورتنا بالعبث؟ وإذا ما كانت هذه الثورة غير ذلك فلماذا يصرّ المخرج كونها عبث محض؟ وألا يعدّ ذلك منظورا من منظوراته الخاصّة وهو ما يدفعنا إلى محاورة الجانب الفكري والطرح السياسيّ لعمله المسرحيّ فيما بعد العرض؟
في المشهد الأوّل من العرض المسرحيّ ستحسم الاجابة عن جملة من الأسئلة المطروحة سلفا، فما نحن الآن بصدد مشاهدة تاريخية تمسرح حياة ذلك العبثيّ "دون كيشوت"، وإنّما إزاء تشغيل مسرحيّ للثورة التونسيّة ذاتها. هذا الحسم يبلغ منتهاه منذ لحظة مشاهدتنا تلك العربة التي كان يجرّها بائع الخضر ومفجّر الحراك الاجتماعي "محمد البوعزيزي"، ولكن ثمّة أسئلة الآن يجب عليها أن تحسم بدورها، فلا بائع خضر هنا في المسرحية ولا أحد من الثوّار نراهم غير تلك الكائنات الفضائية المتحكّمة فيهم وفي مسار العربة نفسها.
- بهذا الشكل، ومن منطلق قراءة تأويلية، يمكننا القول إنّ مخرج العمل يضعنا منذ أوّل مسرحيته إزاء حقيقة تقول بعبثيّة الثورة التونسيّة، فأن تسرق رمزيتها (العربة) فهذا يعني لا جدواها بالمرّة.
تدور بقيّة مشاهد العمل المسرحيّ، أو بالأحرى هي تسرد سيرة تلك السرقة وتمسرح بشاعتها لا غير، إذ هي محض اجابة عن كيف تحوّلت إلى عبث خالص؟ وكيف نجح "الأغراب"/الكائنات في جعلها كذلك؟ وردت تلك الاجابة بصيغة ممسرحة بدورها، إذ ثمّة الثائرون في عوالم المحاماة والاعلام والسياسة من جهة، وثمّة من أصبح يتحكّم في مصائرهم فإذا بهم دمى ثوريّة محض، يتمّ التلاعب بهم والقذف بسلوكاتهم وحياتهم نحو مستنقع العدمية، حتى أنّ نتيجة الفعل الثوريّ أفصحت عن كون الأحزاب مجرّد بورصات والنقابات محض مواخير قائمة على التسوّل والأجهزة الأمنيّة معيّة رجال الأعمال والاعلام أكثر ارهابا من الارهاب ذاته (مشهد التحقيق في محاولة الاغتيال). لقد دفعت تلك الكائنات الفضائية، وهي في حقيقة الأمر ليست كذلك، بل هي القوى الخفيّة والمعادية للثورة، بالجميع إلى استبدال الفعل الثوري بالفعل السياسي، فكان أن انقلبت ضحيّة الاغتصاب أو تلك المهدّدة بالاغتيال إلى نقيضها المجرم، فدموعها لم تكن تخفي نزاهتها بقدر ما هي تخفي رغبتها الجامحة في اقتناص أوّل فرصة سلطويّة تتحصّل عليها.
ما الذي تبقّى من حطام هذه الثورة الراكدة؟ أو لنقل هل ثمّة سديم خفيّ قد ينقذها من العبث والعدميّة؟
ثمّة ذلك الخطاب النصي الذي نقله أحد الممثلين وهو يرغي ويزبد بلغة فصحى، يستنطق أساطير القدامى، ويبحث عن مسلك انساني ضائع في عالم ممزّقة أوصاله: صرخة التجأت إلى سارق النّار "بروميثيوس" لا إلى ذلك العدميّ "دون كيشوت"، ربّما هي صرخة تريد لسديم تلك الثورة التي كان أوّلها قائما على الحرائق أن تشعل ماهيّة الوحش الآدمي الذي مارس لصوصيته ضدّ حلم الثائرين ودنّس انتظاراتهم وورّطهم في ثقافة الموت.
هذا الوحش الآدميّ بأجهزته المختلفة، والذي شاهدناه من خلال شخوص مدرّبة على طمس حقيقة الصراع الثوري –سواء من خلال العرض المسرحي أو حتى في حياتنا قبل أن تمسرح الآن في هذا العمل- يورّط الجميع في العدمية، وكأنّ لا قدر للقضاة وللمحامين وللاعلاميين إلا أن يصبحوا لصوصا كي يتسنّى القول بعبثيّة الثورة (مشهد المحاكمة)، يريده المخرج أن يسقط الآن. إنّ العودة إلى استنطاق "بروميثيوس" هو ما يفصح عن المشترك بين الراهن ونقيضه، فأن يلتجأ ذلك الوحش الآدمي إلى ثوب الكهنة ولباسهم ثم يعلن الحرائق ويتلف الكتب باسم الربّ وعطشه إلى التجهيل (مشهد حرائق الكتب)، فإنّ نقيضه الحقيقيّ وضدّه النّوعي هو سارق النار، ذلك السيّد "بروميثيوس" الذي أنقذ البشريّة من سلطة الآلهة باحتكارها النّار وحدها، النّار التي أتلفت جسد صاحب تلك العربة "محمد البوعزيزي" وأعلنت للوجود أنّه لا بدّ من بهاء ما وتغيير في صلبه، وأنّه لا بدّ من ثورة عاتية تعصف بالسكينة والظلام.
تلك هي مسرحية "ثورة دون كيشوت" لصاحبها وليد الدغسني، من حيث جانبها الفكري وطرحها الوجوديّ والسياسيّ، وبالرّغم من كونها شغّلت الفرجة دون عمليّة تقوم على توهّج وتكثيف فرجويّ، وحضرت فيها الثورة وتضاءل فيها الجانب الثوريّ، إلا أنّها أنبأت في آخر عرض لها على ركح مهرجان الحمامات الدولي في دورته الثالثة الخمسين، عن قدرة أدائيّة مذهلة لممثّليها، وهذا يفصح عن ملاحظتين مهمتّين في اعتقادنا، الأولى تجد اشتغالها من حيث الوعي التجاوزي الذي رافق فريق العمل نحو مزيد من كتابة العرض بصفته يتغيّر بتغيّر اشتغاله من زمن إلى آخر ومن فضاء إلى آخر، وأن ينجح في فضاء كفضاء مسرح الحمامات فهذا ينمّ عن روح محفوفة بغير قليل من التحدّي لفريق العمل ككلّ، أمّا الثانية فمتعلّقة بالرهانات المستقبليّة لمخرج العمل ذاته، من حيث المراكمة لتجربته المسرحيّة وما إن كانت ستفصح عن تجارب مغايرة ومسالك جمالية نحن سنراها في أعمال أخرى له.